يتردد صوت الشيخ محمد رفعت عذبا شجيا وهو يرفع أذان المغرب داخل كل بيت فى بر مصر، فتهدأ الروح وتبتل العروق ويثبت الأجر.
حكاية لا يختلف عليها كثيرون، ولكن دعنا أولا نتساءل: كيف أصبح صوت الشيخ جزءاً من حياة المصريين، وكيف أمكن لهذا الحزن الساكن صوته أن يكون مبعثا لكل فرح وبهجة فى القلب.
والأفضل أن نبدأ القصة من بداياتها
ربما لم يتصور محمود رفعت مأمور قسم الخليفة أنه سيدخل التاريخ ، فغاية ما تمنى هو أن يحيا وأسرته حياة طيبة, سواء فى حى المغربلين بالدرب الأحمر الذى شهد ولادة ابنه محمد رفعت، أو فى شارع يحيى أبو زيد المتفرع من شارع محمد على حيث انتقلت الأسرة.
لا أعتقد أن هذا الحلم قد مر بخاطره، لا شىء يدل على معرفة الناس به سوى بعض المقربين وجيران الحى وزملاء الوظيفة، وحتى هؤلاء لايتصورون أن يحصل محمود رفعت على منحة كبيرة او رفعة فى هذه الحياة، خاصة أن صغيره محمد قد استيقظ ذات صباح على ألم شديد بعينيه، فقد بعدها بصره إلى الأبد مثل كثيرين غيره كان الرمد سببا فى إصابتهم بالعمى.
سلم الوالد أمره لله، ولم يقتنع بما قال له البعض: من أن محمد فقد بصره لأن امرأة حسدته حين رأته، وقالت: ابن ملوك! عيناه تقولان ذلك.
فبالتأكيد لم تقابل هذه السيدة كل أطفال المحروسة الذين كان يزورهم ضيف ثقيل اسمه الرمد الربيعى، كان يرفض أن يغادر الا بعد أن يترك بصماته على أعين من يزورهم.
إذن هى ارادة الله تعالى، فمحمد رفعت لن يكون ضابطا أو طبيبا فى يوم من الأيام، ولا طريق أمامه سوى الالتحاق بكتاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز.
منذ ذلك اليوم، أصبح المشهد تقليديا، فالشيخ عبد الفتاح هنيدى يرتل القرآن على مسمع من الصغير ليرتله ويحفظه، وفى ساعة العصارى كان الصغير يعيد على مسامع والده ما استظهره حتى يتثبت من صحيح حفظه وتجويده.
وحتى هذا المشهد الشديد الأبوة ـوعفواً إذا وصفته بالتقليدى ـ قد كُتب عليه أن ينتهى، بعد أن انطفأ نور آخر فى بيت الشيخ، ورحل الأب مبكرا تاركا, ليس فقط مهمة رعاية الصغير محمد ، ولكن ليضيف لمحمد رفعت مهمة تنتظره ولا يعفيه منها كف بصره!
فلابد من إعالة العائلة التى كانت كل ما يستنير بنوره فى هذه الدنيا، ولابد من رعاية أفرادها: أمه وأخيه وأيضا خالته.
موقف صعب، لابد أنه احتار وتردد، ولكن كل إنسان فى هذه الدنيا يملك أربعة وعشرين قيراطا كاملة من المنح الربانية, سواء فى صحته أو ماله أو ولده أونعم أخرى فى حياته الخاصة، وقد اختار الله تعالى أن يعوض البصر بالبصيرة، وأن يجعل لمحمد رفعت, ليس فقط أذنين ليرى بهما ،بل تجلت ارادته فى أن يجعل أيضا آذان الناس ترى, وتقرأ آيات الذكر الحكيم معه.
يبدو أن الكتاب الصغير الذى تعلم فيه التجويد و الترتيل كان فاتحة خير عليه، كان يقرأ فيه كل يوم خميس، وعندما تحسن الحال أصبح قارئا لمسجد فاضل فى يوم الجمعة وهو مازال فى الخامسة عشرة.
يتغير الحال, ليس فقط بمحمد رفعت هذه المرة، ولكن بدرب الجماميز كله الذى صار يأتى إليه كثير من أهل مصر أيام الجمعة، حتى أنهم أصبحوا يفضلون مسجده على مساجد أخرى لها تاريخ معهم.
فالشيخ لا يسهر، و إذا ما جاء رمضان يمكن لأى مواطن أن يستمع إليه فى سراى فاضل باشا التى بدأ معها.
حتى كوكب الشرق أم كلثوم كانت ـــ كما يحكى صفوت عكاشة فى كتابه «صوت الخلود»، ـــ تحرص على الحضور إلى المسجد و الجلوس فى المندرة مع النساء للاستماع إلى الشيخ رفعت.
ينبغى ألا ننسى اننا فى زمن الثلاثينيات والأربعينيات فى بر مصر، فى وقت كانت مصر تبحث فيه عن الترقى والتعامل الرقيق مع مفردات التمدن كما تبحث عن الاستقلال.
فالشيخ محمد رفعت الذى ولد فى مايو عام 1882، نفس العام الذى دخل فيه الاحتلال البريطانى مصر، لم يكن منفصلا عن مصر التى تبحث عن وضعها بحرفية و تحضر يجعلان من التثقف ملاذا لكل أهلها.
فالشيخ الدؤوب كما يحصل ثقافه دينية ويجود القرآن ويفهم علوم القراءات والتفاسير، يستمع إلى موسيقى بيتهوفن وموتسارت وفاجنر، بل ويتعلم العزف على آلة العود.
ولهذا لا غرابة فى أن محمد عبدالوهاب أعجوبة عصره فى الغناء والتلحين ومنافس أم كلثوم الأول كان أحد مرتادى بيت الشيخ محمد رفعت فى حى السيدة زينب.
وقد عرض عليه تسجيل القرآن الكريم ولكنه رفض، فهو لا يبحث عن المال ابدا، والدنيا كلها عرض زائل. وإن كان عبد الوهاب قد طلب هذا لأنه صوت ملائكى يأتى من السماء لأول مرة.
حقيقة، لم يكن ببر مصر هذا الخط الفاصل بين التدين الحقيقى و فهم مفردات المجتمع الذى كان يعنيه وقتها و حسب المنطق المصرى الانفتاح على الحياة والثقافة دون الدخول فى محرمات أو الابتعاد عن التدين والأخلاق.
كان للمجتمع المصرى فقه حاكم يفرض الأخلاق على كل أهله، ولا يعنى هذا أن كل شىء كان يسير فى هذا الاتجاه، فهناك بعض الشطط ولكن هؤلاء كانوا خارج مصداقية أهل مصر.
ولهذا لا يمكننا أن نفرق بين حب أهل مصر لصوت محمد رفعت أو أم كلثوم أو الشيخ المنيلاوى المنشد صاحب الحنجرة الرائعة, والثلاثة اعتبرهم د.يوسف شوقى المشرف على مشروع السلم الموسيقى العربى بأكاديمية البحث العلمى يمثلون قمة الإبداعات الصوتية التى يأمل الانسان أن يستمع إليها فى يوم من الأيام.
كماأثبتت رسالة ماجستير أن صوت الشيخ رفعت يضم 18 مقاما ويشتمل على الأقسام الثلاثة من الأصوات الرجالية الباص والباريتون والتينور.
يمكننا أن نستمع إلى تفاصيل أخرى من حكاية الشيخ الذى استمع له الأمير محمد على فأراد أن يسمع صوته فى الإذاعة، وقد كان ذلك اليوم فى الحادى والثلاثين من مايو عام 1934 وكان يوما مشهودا فى بر مصر.
فهذا اليوم أعلن نهاية الإذاعات الأهلية وانطلاق الإذاعة المصرية التى حلت محل إذاعات كان أهل البلاد يشكون وقاحتها و خروجها عن الأداب العامة.
افتتح الشيخ محمد رفعت الإذاعة بقراءته سورة الفتح بعد أن استفتى علماء الأزهر فى جواز نقل أثير الأذاعة لصوته.
لا يعنى هذا أن الرجل كان صاحب عقلية منغلقة ولكنه التثبت من صحيح الأشياء كما هو الحال من تثبته من صحيح التجويد، وقد طلب منه أمين بك مهدى المعروف بحبه للفنون أن يغنى فى الإذاعة قصيدة وحقك أنت المنى، وقد فعلها الشيخ كما يقول محمود توفيق الخولى فى كتابه «قيثارة السماء» دون أن يعرف الناس أن المنشد هو الشيخ محمد رفعت.
أصبح الشيخ محمد رفعت هو قارئ يوم الإثنين والجمعة، وموطن محبة الأمة المصرية ومبعثاً لحسد الحساد, كما حدث من محاولة أنصار أحد المشايخ التشويش عليه، و كما احتج عليه من احتج بسبب لقب إمام القراء.
المهم أنه ظل قارئا ومجسدا بصوته الجليل لكل كلمة يقرأها، فلم يرض أن يحيى رمضان فى شرق آسيا أو الهند مقابل مائة جنيه فى اليوم ـ وهو مبلغ فلكى فى ذلك الزمان ـ ولم يرض أن يسجل القرآن كاملا بصوته فلا تحتاج الإذاعة لغيره، ولم يبسط يده ليقبل مليما واحدا ممن عرفوا بمعاناته الأخيرة مع «الزغطة» أو سرطان الحنجرة.
يظل هو صاحب الصوت الشبابى, كما وصفه الشيخ عبدالباسط عبد الصمد، وصاحب الصوت الذهبى الذى يطوف بنا العوالم القدسية من خلال آيات الذكر الحكيم كما قال الشيخ الشعراوى.
مشهد أخير يذكره ابنه محمد وهو يدخل ليلا حاملا القلة بيمناه ويتحسس طريقه بيسراه ليسقيه وإخوته قبل النوم.
يبدو أن هذا المشهد الأخير كان فى شهر رمضان الكريم الذى أطلت نفحاته، وهو ليس مشهده الأخير فى الحياة ولكنه مشهد ينتهى معه كلام الابن والمعجبين ورواة سيرته…
فهذا حديثنا عن رجل تعشقه الأذن ويحبه وينتظره أهل مصر ــ رحل منذ 66 عاما ــ وقد بارك الله فى عمره وصوته وترك لنا تسجيلات لصوت كاد يضيع مثل كثير من الأشياء فى بر مصر لولا المحبين.