الـتـواضـع … جمع وترتيب أحمد كشك

الحمد لله أحمده وأستهديه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، وبعد …،
فلو رجعنا إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لعلمنا أن الدين إنما جاء ليدعو إلى مكارم الأخلاق والتحلي بالأخلاق الحميدة ولذلك هذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، وهي مما وصى بالتمسك به صلى الله عليه وسلم بها كما جاء في الترمذي من حديث أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : (( اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)) حسنه الألباني ولذلك لما اتبع الصحابة الكرام والسلف الصالح هذه الأخلاق كانت نبراساً لهم في حياتهم، ودخل الإسلام شعوب كثيرة لما عرفوه من هذه الأخلاق ورأوها تطبق عمليا على أصحابها
ومن تلك الأخلاق التي جاء بها الإسلام وحث عليها القرآن الكريم والسنة ، وغرسها النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب الصحابة والذي هو رسالتي لكل من أعطاه الله المال أو السلطة أو الجاه أو العلم أو أي شيء آخر مما يتعالى به على خلق الله : إنه خلق التواضع الذي هو من الأمور المهمة جداً في حياة الناس ، فهو حلية الأنبياء، وزينة العلماء ، يزيد المنتصر نصراً، ويزيد الناجح نجاحاً في مهامه وأعماله، فهو خلق محبوب عند الله وعند خلقه وكما قيل: تاج المرء التواضع
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر **** على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسـه **** إلى طبقات الجو وهو وضيـع
أولا : تعريف التواضع :
* التواضع لغة : مأخوذ من مادّة (وض ع) الّتي تدلّ على الخفض للشّيء وحطّه
* واصطلاحا : إظهار التّنزّل عن المرتبة لمن يراد تعظيمه وقد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم تعريفا شاملا واضحا لا يحتاج إلى بيان حيث قال حين سئل عن الكبر فقال : (( بطر الحق و غمط الناس )) أي رفض الحق واحتقار الناس فيكون التواضع عكسه فهو قبول الحق وعدم احتقار الناس
– وقال الحسن : تدرون ما وجه التواضع ؟ قال : أن يخرج الرجل من بيته فلا يلقى مسلما إلا وضع نفسه دونه لما يعلم منها ( أي من قدر نفسه ) حتى يرجع إلى البيت ، فمن يرى لنفسه قيمة فليس له من التواضع نصيب
– ولذلك قال الشافعي : أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلًا من لا يرى فضله
– وهذا التواضع يكون مع الله عز وجل : وتواضع كل إنسان يكون على قدر معرفته بربه عز وجل ومعرفته بنفسه فكلّما شمخت نفسه ذكر عظمة الله تعالى وتفرّده بهذه العظمة وغضبه الشّديد على من نازعه في ذلك فتواضعت إليه نفسه وانكسر لعظمة اللّه قلبه ، فإنه كلما تعرف الإنسان على الله حق المعرفة بأسمائه وصفاته وقدرته سبحانه وتعالى وتعرف على قدر نفسه وأنه عاجز ضعيف أورثه ذلك يستجيب لله عز وجل في كل أوامره وينتهي عما نهى عنه ويزداد تواضع وانكسار أيضا
– وهذا التواضع يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم باتباع أوامره والتمسك بسنته
– وهذا التواضع يكون بالتواضع في الدين فتقبل الحق ممن جاء به مهما كان سواء من صغير أو كبير أو عالم أو جاهل غني أو فقير ولا ترد دليلا ولا تخالفه ولا تتهمه بل تتهم عقلك بالقصور وعدم الفهم لأنه لو خالف العقل النص الصحيح فالعيب في العقل ، كما قيل:
وكم من عائب قولا صحيحا … وآفته من الفهم السّقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه … على قدر القرائح والفهوم
– وكذلك يكون مع الناس: بحيث لا تتعالى على الناس بما فضلك الله عليهم وتؤمن أن من ارتضاه الله عز وجل من الناس أن يكون عبدا له يعيش تحت سمائه وويرزقه من رزقه فترضيه أنت أن يكون أخا لك ، مهما علت أو نزلت منزلته فلا تتعالى على الناس بالمال أو الجاه أو السلطة أو العلم أو الملبس
فالمتكبر وضيع وإن رأى نفسه مرتفعاً على الخلق في المرتبة والمنزلة ، والمتواضع وإن رآه الناس وضيعاً فهو رفيع القدر
– ولذلك قيل : تواضع إذا ما نلت في الناس رفعة * فإن رفيع القــــــــــوم من يتواضع
– وقــــــــــــــيل : إذا شئت أن تزداد قدرا ورفعـــــــة * فلن وتواضع واترك الكبر والعجبا
ثانيا : الأمر في الكتاب والسنة بالتواضع :
** ولقد أمرنا الله عز وجل في القرآن الكريم بالتواضع:
1- أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم مع عظم مكانته عند الله عز وجل بالتواضع للمؤمنين (( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) الشعراء: ٢١٥
وقال السعدي : ألن لهم جانبك، وحسِّن لهم خلقك، محبة وإكراما وتودُّدا
((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)) آل عمران: ١٥٩
2- أمر الله بالتواضع في وصايا لقمان لولده على لسان لقمان فأمره ألا يعبس في وجه الناس ويدير وجهه عنهم تعاليا وكبرا وألا يمشي في الأرض مرحا مفتخرا بالنعمة و معجبا بنفسه ناسيا فضل المنعم جل وعلا عليه فالله عز وجل لا يحب كل من يتكبر و يتعاظم بماله أو بعلمه أو بجاهه على الآخرين
((وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)) لقمان: ١٨
3- وكذلك في سورة الإسراء حيث أمر الله تعالى بعدم المشي في الأرض بالعظمة والخيلاء والكبرياء لأن الإنسان مهما بلغ من القوة والجاه والعظمة لأنه لو فعل ذلك فلن يخرق الأرض إذا مشى عليها ولن يبلغ برأسه الجبال طولا ((وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا((
يا من تكبرت وتبخترت وتعاليت على الناس بمنصبك وجاهك وأموالك وعلمك ، علام تتكبر ؟ قد أخبر الله تعالى عن قارون حين فعل ذلك و خرج على قومه في زينته التي قد لا تصل إليها فإن خزائنه كان العصبة من الرجال يجاهدون في حمل مفاتيحها فقط فما بالك بما فيها من الخيرات ، ولكنه نسي المنعم وفضله عليه وخرج يتبختر ويتكبر على قومه ويفتخر بنعم الله عز وجل ونسي المنعم حتى أنه تمنى كل واحد منهم أن يكون مكانه فخسف الله تعالى به وبداره الأرض جزاءا نكالا لفعلته ولتكبره على الناس
** وكذلك لطالما حث النبي صلى الله عليه وسلم على التواضع وحذر من الكبر :
1- فعن عياض بن حمار المجاشعيّ رضي اللّه عنه : أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (( إنّ اللّه أوحى إليّ أن تواضعوا حتّى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد )) رواه مسلم فيكون التواضع سببا في انتشار الحب والود بين المجتمع
2- و عن ركب المصريّ- رضي اللّه عنه- قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: (( طوبى لمن تواضع في غير منقصة )) أي حقق التواضع ولكن في غير معصية لله تعالى
3- وعن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: (( ما تواضع أحد للّه إلّا رفعه اللّه ))رواه مسلم
4- وعن حارثة بن وهب الخزاعيّ- رضي اللّه عنه- أنّه سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول«ألا أخبركم بأهل النّار؟» قالوا: بلى. قال:(( كلّ عتلّ جوّاظ مستكبر )) رواه البخاري ومسلم ، ومعنى كل عتل أي : كل جافي شديد الخصومة ، وكل جوّاظ : أي كل ضخم مختال في مشيته فأخبر أنه من أهل النار
5- و عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (( لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرء بأنفه إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من تراب )) ومعناه أنه إما أن ينتهون عن ذلك التفاخر بالآباء والأنساب والتكبر على الخلق ، ويتواضعوا وإما أن يكونوا عند الله عز وجل أذل من هذه الحشرة الحقيرة ( الجعل ) التي تقف على الخراءة تدغدغها بأنفها جزاءا لتكبرهم
والأمثلة لتواضع الملائكة والأنبياء والصحابة والسلف الصالح كثيرة : سطروا فيها أروع الأمثلة

ومن تواضع الصحابة والسلف

– فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان يحلب الأغنام لجيرانه قبل توليه الخلافة فلما تولاها ظنوا أنه لن يستمر في ذلك وبلغه ذلك ، فقال لهم : بل لعمري لأحلبها لكم، وإني لأرجو أن لا يغير ما دخلت فيه خلق كنت عليه، فاستمر يحلب لهم .
– وحين تولى الخلافة رضي الله عنه قال : وليتكم ولست بخيركم
– وهذا عمر بن الخطاب يدخل بيت المقدس فاتحًا .. فماذا كان حاله ؟! لم يأتيها في طيارة ويستقبلوه بالتشريفة وهو أحق بهذا كله أتى بناقة وكان يتناوب الركوب عليها هو و الغلام الذي معه فلما قرب من الشام كانت نوبة ركوب الغلام، فنزل عمر وركب الغلام وأخذ عمر بزمام الناقة فاعترض طريقه بركة من الماء فجعل عمر يخوض في الماء برجله حافيا ، ونعله تحت إبطه اليسرى، وهو آخذ بزمام الناقة، فخرج أبو عبيدة إليه وكان أميرًا على الشام فلما رآه على هذه الحال قال: يا أمير المؤمنين إن عظماء الشام يخرجون إليك، فلا يحسن أن يروك على هذا الحال ، فقال عمر: إنما قوم أعزنا الله بالإسلام، فلا نبالي بمقالة الناس ومهما ابتغينا العزة بغير الإسلام أذلنا الله .
– وهذا عمر بن عبد العزيز يكتب ذات ليلة شيئًا وعنده ضيف، فانطفأ السراج فقال الضيف : هل أقوم إلى المصباح فأصلحه ؟ فقال: لا، ليس من الكرم استخدام الضيف فقال: هل أنبه الغلام ؟ قال: لا، هي أول نومة نامها ، فقام عمر بنفسه وجعل الدهن في المصباح ، فقال الضيف : تقوم بنفسك يا أمير المؤمنين ؟ فقال له: ذهبت وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر .

ومما يساعد على التحلي بهذا الخلق الطيب أمور كثيرة منها :
1- معرفة ثواب التحلي بهذا الخلق في الدنيا والآخرة : فيعلم أن التواضع في الدنيا يعلي من قدر صاحبه بين الناس ويزيده وقارا لأنه من تواضع لله رفعه الله ، وفي الآخرة يورثه الله الدار الآخرة يتبوأ من الجنة حيث يشاء قال تعالى : ((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ))القصص: ٨٣
2- أن يعلم العبد عقوبة الكبر في الدنيا والآخرة : فهو يحط من قدر صاحبه في الدنيا ويكون سبب في عذابه يوم القيامة وعدم دخوله الجنة فعن عبد الله بن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:(لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر ) رواه مسلم
فالله -تعالى- يبغض المتكبرين ولا يحبهم، ويجعل النار مثواهم وجزاءهم : ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ)) الزمر: ٣٢
3- أن يعلم العبد أنه لا فرق بين إنسان وآخر إلا بالتقوى كما أخبر سبحانه وتعالى : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) الحجرات: ١٣ فيؤاخي المؤمنين أيًا كانت رتبتهم ومكانتهم ويكثر من الجلوس مع المساكين والفقراء ويأكل معهم ويخدمهم ويسعى في قضاء حاجاتهم .
4- أن يكثر العبد من النظر في عيوب نفسه فينشغل بها ويترك التكبر على الناس
5- يتجنب ما فيه تزكية للنفس أو تعظيم لها لأن ذلك مما يحمل الإنسان على الكبر
6 – يحسن الاستماع إلى نصيحة الناصحين أيا ما كان وضعه وعدم ردها مهما كانت
7- أن يعلم المرء حقيقة نفسه جيدا فيعلم أنه خرج مرتين من مجرى البول وفي النهاية هو جيفة قذرة لا يطيقها أقرب الأقربين وأثناء حياته يعرق ويخرج منه أنتن الروائح فلما التكبر ، يحكى أن مالك بن دينار مر به رجل متكبر يتبختر في مشيته فقال له مالك: أما علمت أنها مشية يكرهها الله إلا بين الصفين أي في الحرب ؟ فقال المتكبر: أما تعرفني ؟ قال مالك : بلى، أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة، فانكسر وقال: الآن عرفتني حق المعرفة ،
8- الدعاء مع الإخلاص نسأل الله عز وجل أن يرزقنا التواضع وأن يحلينا بمكارم الأخلاق

عن حسام فوزي جبر

شاهد أيضاً

أهم أدعية العشر الأواخر من رمضان

بدأت أولى ليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان 2023 وهي ليلة 20 من رمضان وتستمر …