ندا حامد
بضع ساعات هي المدة التي هطلت فيها الأمطار في مدينه بلطيم ، لكنها تسببت بشلل في الحياة العامة، وإلى تكدس المياه في العديد من الشوارع بالمدينة وقرها وأحصت أرواح ثلاثة أطفال أبرياء لم تفرق المياه بين صغيرهم وكبيرهم .
تسبب في تحول العديد من القرى والنجوع بها إلي بحور وخاصة قرية الشيخ مبارك وعزبة أبو سليمان إلى برك وبحور تسبح بها الأهالي لكي تصل إلى عملها ، ولم يقتصر الأمر على ذلك قد فوجئ الأهالي بموت فلذات أكبادهم ، وسقطت جثثهم على الأرض وغطتها برك المياه التي لم تفرق بين صغير وكبير، وبعد بحث طويل عنهم وجدوا بدخل برك المياه
أن ذلك تقصير من مسئول تكاسل في عمله ، أم موظف يعاني من أزمة ضمير ، أم تقصير من أباء تجاه أطفالهم ، أم تقصير من مجتمع قرر أن يعيش دور الضحية ، ، أم تقصير مني تجاه أهلي في البلدان المجاورة لتوصيل صوتهم إلي المسئولين ، أم قضاء الله وقدره .
فشهادة جامعيه وثلاثة وعشرون دورة تدريبية ومئات المقالات ولم يكفي هذا لأضع فيه جزءا بسيطا من الخراب الذي تحويه روحي من الألم علي هذه المأساة .
فمنذ أن جاءتني رسالة تحت مُسمى ” صباح الخير ، توفي طفله ثالثه بسبب مياه الأمطار تدعي كريمه محمد الشرقاوي من قرية الشيخ مبارك لم تكمل العامين ، ويسبقها بعشر أيام محمود محمد محمد عباس عام ونصف ، وهنا رزق محمد عباس ٣سنوات بعزبة أبو سليمان جثث هامدة ناتج عن حاله غرق بمياه الأمطار ” ،
راودتني صدمه عابره فقد كنت معتادة علي مثل هذه الأخبار و كان الرّد لأول مرّه بشكل صريح لمرسلها ” عن أي خير تتحدّث ؟ ، عن أي خير في هذا المُجتمع الغير مُنظم ، أي خير في مدينه لا وجود لها بين المُدن ، أي أنّهُ لا أحد من مسئوليها يعلم عنها وعن مأساتها شيء ، عن أي خير تتحدّث و أنا لا أملُك سوى قلم عليل لن يفي بالغرض ،
حاولت رغم ذلك أُن أصيغ خبر يربط الثلاث أطفال ولكني فشلت فكنت أعاني من سدة الكاتب منذُ استلام الرسالة، كنتُ أكذب على نفسي قائلةً أن هذا ليس سوى إرهاق ذهني مِن كثرة المعارك التي أخوضها في الحياة مؤخرًا، والتي تتلخص في قتل فلان لفلان وذبح أخر وانتحار شخص لضائقة ماليه وهكذا ،
ولكنها الحقيقة التي يتهرّب منها كل من ذاق طعم الحبر واستطاع تشكيله كيفما يشاء، إن الحروف تتمرد عليّ وتأبى الأفكار أن تدور في مخيلتي وتؤنس وحشة دربي كما كانت تفعل دومًا،
أخشى أن أكون فعلت شيء محزنًا لها ولذا باتت تتهرّب مني ،
أعلم أن هذه المقالة لن تصف لكم أوجاعي لكن ربما أشعرتكم بأن أحد ما على ساحل العالم يناجيكم بالطريقة الوحيدة التي يستطيع من خلالها أن يصل إليكم شعرت فقط أني بحاجة أن أخبر أحدهم عن ذلك حتي ولو كان لا يستطيع أن يفهمني ، ولعل أحدٌ يستطيع أن يفهم جيدًا معنى أن تهجرك الكتابة أن تهجرك وسيلة إنقاذك من بؤس العالم
ثم تخيلت أرواح الأطفال الثلاث تبكي فقولت : يا أعزائي سلامُ اللهِ عليكم أينما سكنت روحكم واستكانت
أعلم أنه لن تصلكم هذه المقالة ولكن لم أستطع أن أهدي من حدة ألمي القابع في جوفي سوى بالكتابة إلى روحكم الطاهرة
في الواقع لن يصلكم أي شيء من هذا العالم مجددًا .. لا أحد يعلم .. لم .. وهل لو ..ومنذ متى خرب كل شيء وأحترق عالمكم للحد الذي جعل من بركه مياه تسمع أنينكم أكثر منا .
أيعقل أنكم عرفتم مدي دناءة الدنيا مبكرا ، فقادتكم أقدامكم إلي ذلك دون وعي منها ، أم رزقكم الله قربه من شده براءتكم .
اللعنة على هؤلاء الأوغاد الذين يطلقون الأحكام على روحكم الطاهرة وهم لا يعلمون ما الذي قادكم نحو هذا المصير .
كل ما يهمني هو أنتم .. وكيف تألمتم .. وإلى أي حد كان الأمر صعبًا وروحكم تسحب بدخل بركه مياه بكل نفس راضية من كل المعلوم .. هل لهذا الحد يصير المألوف مؤلمًا؟ لهذا الحد يغدو الواقع صعبًا للدرجة التي تجعل بركه مياه تنهي كل شيء في لمح البصر؟!
أتسأل ماذا كانت أخر فكرة داعبت عقلكم البرئ .. ومن أخر شخص فكرتم به جميعكم ..
يا أعزائي آنا آسفة .. أقسم لكم أني كذلك .. وليعلم الله كم تألمت روحي على روحكم .. وليشهد بكائي وأنا أكتب لكم أنه لو كان ثمة بيدي شيء أخر لفعله لكنت فعلته .. لو كان فقط ثمة فرصة أخرى .. لو كان ثمة ميعاد آخر لملاقتكم غير الآخرة ..
لكنت علمتكم كيف تصرخوا وتخربوا كل شيء كي يسمع أنينكم المسئولين .. يا أعزائي أنا آسفة .. على كل مرة دمعه أخفتها بركه مياه بداخلها ولم تجدوا المعونة ..
أقسم لكم أنكم كنتم أشجع من أشباه البشر الذين نعيش وسطهم الآن .. قاومت نفسي حتى لا أتخيل مشهد وداعكم للعالم .. حاولت .. تناسيت .. ولكني في النهاية لم أستطع ..
إنّني أتساءل أيها الصغار ، هل تعدّنا النجوم مثلما نعدّها؟ أم أنّنا باهتون ويصعُب التمييزُ بيننا وبين غبار المجرّة؟
هل تبكي الأغنيات حين تسمع صوتنا؟ أو تحاول الصور تمزيقنا؟
هل تغرق اللوحات في ملامحنا المتجمّدة؟ أو تقرأ القصائد آلام الخذلان في جباهنا المتكرّرة؟
ملايين الأسئلة التي لن يحمل العلم بين طياته إجابة لها .. إنها الحقيقة المرة .. أن من يذهب للموت لا يعود .
لا تبكوا يا أعزائي فقد سَاءت المدينة بأكملها، وحزِن أهلها، إن بكاء روحكِم قد شاع بين الناس جميعاً، جميعهم لم يرونَ هشاشتكم ، ثِمة أشياء تظهر أشياء ليست للطبيعة أن تقبلها، ثِمة أشياء غيرت مجرى العيشة ، ثِمة أشياء ناتجة من هؤلاء الحمقى الذين لا يهتموا لأجلكِم ولو بضع اهتمام على الأقل ، لا تبكو لقد بكى قلبي مع الجميع نيابةً عنكِم .
كيف للعالم أن يستمر بالحياة؟ كيف للناس أن يستمروا بالتنفس؟ أكتب للعالم أن يصمت .. أناشده بالهدوء .. أغلقوا الموسيقى ودمروا صناديق الكهرباء .. أمنعوا أم كلثوم من أن تبوح بجلالة صوتها عن ما يعتمل في النفوس .. أخبروها أن الألم قد تفاقم بحيث لو عبرّنا عنه بالموسيقى لخرج لحنًا ملعونًا وأذاب الأرض ومن عليها .. ولو عبرنا عنه بالكتابة لخرج ثقبًا أسودًا وابتلعنا .. ألا يا ليت الثقب أبتلع الكوكب قبل أن تذهب الأفئدة البريئة بهذه الطريقة .
يالله إن الحياة هنا تسير بشكل دائري، كل الأشياء تتكرر وتتشابه في مكنوناتها، وهذا مُمل جدا ، لا تعاقبنا بهذه الطريقة يالله
لاشيء يدفعنا للبهجة أو حتى لأي شعور حقيقيّ ، نبتلع العلقم بثغرٍ مقوّس، نسمع عن كوارث يومية بجمود مبالغ، نتابع أخبار الفنانين الذين يتكاثرون بشكل خانق، نرتكب جرائم بحق الموجودات، نتجاهل مواء قطة، نقطع شجرة، نحبس عصفورًا، ونسرق ضحكة، نحطّم قلوبًا ونهمّش مشاعر الآخرين
أرواحنا مُثقلة بالذنوب والثقوب ولا نملك رداءً يواريها ، البشرية تُساق نحو فناء الإنسانية يا الله!
أتساءل؛ كيف يمكننا أن نعود للنقطة التي بدأت تسير الأمور عندها بشكل خاطئ؟! أن نتقي أ كل الشؤم والزيف والفوضى، الحروب والفلسفة والسياسة، العنصرية والقسوة والحدود وكل اللعنات التي استوطنتنا!
كل أشكال الحياة هنا مخالفة لما أمرتنا به وبعثتنا من أجله، لاشيء يبشّر بخير قادم سوى فراشة تحطّ على زهرة الأقحوان كل فجر!
إلهي..لطالما كنت ممتنة لوجودك جانبي ، لا تملّ لكثرة رسائلي وتذمري ولا تقطع حديثي الساذج ودموعي السخيّة، ومزاجيتي المفرطة.
أود أن أعترف بحاجتنا كـمخلوقات لاتعرف شيئًا عن مستقبلها اللحظي أننا بحاجة إلى قربكَ دومًا لنضمن أننا لن نخسر مجددًا.
وأنا على يقين تام أن محاولة ترميم هذا الخراب أصعب من ولادة عالم جديد، لكننا نحاول فأعنا يارب ومدّنا باليقين والإيمان، ولا تجعلنا ضحايا القوالب والممتلكات ، حررنا بالمعاني ولا تكبّلنا بالمسمّيات ، كن معنا ورمم ضعفنا ، وابعث لنا حياةً تستحق كفاحنا.
إن لله وإن إليه راجعون ..